الجزء الأول - - ص 7 - قال أبو القاسم رحمه الله : باب ما تكون به الطهارة من الماء ، التقدير : هذا باب ما تكون به الطهارة من الماء ، فحذف المبتدأ للعلم به ، وقوله " ما تكون الطهارة به " ، أي تحصل وتحدث ، وهي هاهنا تامة غير محتاجة إلى خبر .
ومتى كانت تامة كانت بمعنى الحدث والحصول ، تقول : كان الأمر ، أي حدث ووقع ؛ قال الله تعالى : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) أي : إن وجد ذو عسرة .
وقال الشاعر إذا كـــــان الشـــــتاء فـــــأدفئوني فــــإن الشـــيخ يهرمـــه الشـــتاء
أي إذا جاء الشتاء . وفي نسخة مقروءة على ابن عقيل : ( باب ما تجوز به الطهارة من الماء ) ومعناهما متقارب .
والطهارة في اللغة : النزاهة عن الأقذار ، وفي الشرع : رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء ، أو رفع حكمه بالتراب .
فعند إطلاق لفظ الطهارة في لفظ الشارع أو كلام الفقهاء ينصرف إلى الموضوع الشرعي دون اللغوي وكذلك كل ماله موضوع شرعي ولغوي ، إنما ينصرف المطلق منه إلى الموضوع الشرعي كالوضوء ، والصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، ونحوه ؛ لأن الظاهر من صاحب الشرع التكلم بموضوعاته .
والطهور - بضم الطاء - : المصدر ، قاله اليزيدي والطهور - بالفتح - من الأسماء المتعدية ، وهو الذي يطهر غيره ، مثل الغسول الذي يغسل به .
وقال بعض الحنفية : هو من الأسماء اللازمة ، بمعنى الطاهر سواء ؛ لأن العرب لا تفرق بين الفاعل والمفعول في التعدي واللزوم ، فما كان فاعله لازما كان فعوله لازما .
بدليل قاعد وقعود ، ونائم ونئوم ، وضارب وضروب . وهذا غير صحيح ؛ فإن الله تعالى قال ( ليطهركم به ) ، وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » . متفق عليه ، ولو أراد به الطاهر لم يكن فيه مزية ؛ لأنه طاهر في حق كل أحد .
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم « عن التوضؤ بماء البحر ، فقال : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته » .
ولو لم يكن الطهور متعديا لم يكن ذلك جوابا للقوم ، حيث سألوه عن التعدي ، إذ ليس كل طاهر مطهرا ، وما ذكروه لا يستقيم ؛ لأن العرب فرقت بين - ص 8 - الفاعل والفعول ، فقالت : قاعد لمن وجد منه القعود ، وقعود لمن يتكرر منه ذلك ، فينبغي أن يفرق بينهما هاهنا ، وليس إلا من حيث التعدي واللزوم .
( 1 ) مسألة : قال أبو القاسم ، رحمه الله : ( والطهارة بالماء الطاهر المطلق الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره : مثل ماء الباقلا ، وماء الورد ، وماء الحمص وماء الزعفران ، وما أشبهه ، مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت ) .
قوله " " والطهارة " مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : والطهارة مباحة ، أو جائزة ، ونحو ذلك ، والألف واللام للاستغراق ، فكأنه قال : وكل طهارة جائزة بكل ماء طاهر مطلق ، والطاهر : ما ليس بنجس .
والمطلق : ما ليس بمضاف إلى شيء غيره . وهو معنى قوله " لا يضاف إلى اسم شيء غيره " . وإنما ذكره صفة له وتبيينا ، ثم مثل الإضافة ، فقال : " مثل ماء الباقلا ، وماء الورد ، وماء الحمص ، وماء الزعفران ، وما أشبهه " .
وقوله : " مما لا يزايل اسمه اسم - ص 9 - الماء في وقت " ، صفة للشيء الذي يضاف إليه الماء ، ومعناه : لا يفارق اسمه اسم الماء . والمزايلة : المفارقة ؛ قال الله تعالى : ( لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) ، وقال أبو طالب وقــد طــاوعوا أمــر العــدو المـزايل
أي المفارق . أي : لا يذكر الماء إلا مضافا إلى المخالط له في الغالب .
ويفيد هذا الوصف الاحتراز من المضاف إلى مكانه ومقره ، كماء النهر والبئر ؛ فإنه إذا زال عن مكانه زالت النسبة في الغالب ، وكذلك ما تغيرت رائحته تغيرا يسيرا ، فإنه لا يضاف في الغالب .
وقال القاضي : هذا احتراز من المتغير بالتراب ؛ لأنه يصفو عنه ، ويزايل اسمه اسمه . وقد دلت هذه المسألة على أحكام منها إباحة الطهارة بكل ماء موصوف بهذه الصفة التي ذكرها ، على أي صفة كان من أصل الخلقة ، من الحرارة والبرودة ، والعذوبة والملوحة ، نزل من السماء ، أو نبع من الأرض ، في بحر أو نهر أو بئر أو غدير ، أو غير ذلك .
وقد دل على ذلك قول الله تعالى : ( وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، وقوله سبحانه : ( وأنـزلنا من السماء ماء طهورا ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم « : الماء طهور لا ينجسه شيء » ، وقوله في البحر : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » .
وهذا قول عامة أهل العلم ، إلا أنه حكي عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو ، أنهما قالا في البحر : التيمم أعجب إلينا منه . هو نار .
وحكاه الماوردي عن سعيد بن المسيب . والأول أولى ، لقول الله تعالى : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) وماء البحر ماء ، لا يجوز العدول إلى التيمم مع وجوده .
وروي عن أبي هريرة قال : « سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته » أخرجه أبو داود ، والنسائي والترمذي ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله " ولأنه ماء باق على أصل خلقته ، فجاز الوضوء به كالعذب .
وقولهم : " هو نار " إن أريد به أنه نار في الحال فهو خلاف الحس ، وإن أريد أنه يصير نارا ، لم يمنع ذلك الوضوء به حال كونه ماء .