السورة الكريمة مدنية، وهي على وجازتها سورة جليلةٌ ضخمة، تتضمن حقائق التربية الخالدة، وأسس المدنيّة الفاضلة، حتى سمَّاها بعض المفسرين "سورة الأخلاق".
* ابتدأت السورة الكريمة بالأدب الرفيع الذي أدَّب الله به المؤمنين، تجاه شريعة الله وأمر رسوله ، وهو ألاّ يُبرموا أمراً، أو يُبدوا رأياً، أو يقضوا حكماً في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يستشيروه ويستمسكوا بإِرشاداته الحكيمة {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
* ثم انتقلت إلى أدبٍ آخر وهو خفض الصوت إِذا تحدثوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيماً لقدره الشريف، واحتراماً لمقامه السامي، فإِنه ليس كعامة الناس بل هو رسول الله، ومن واجب المؤمنين أن يتأدبوا معه في الخطاب مع التعظيم والإِجلال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ..}.
* ومن الأدب الخاص إِلى الأدب العام تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل، فتأمر المؤمنين بعدم السماع للإِشاعات، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار، لا سيما إن كان الخبر صادراً عن شخص غير عدل أو شخص متَّهم، فكم من كلمةٍ نقلها فاجر فاسق سبَّبت كارثةً من الكوارث، وكم من خبرٍ لم يتثبَّت منه سامعه جرَّ وبالاً، وأحدث انقساماً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا..}.
* ودَعَت السورة إِلى الإِصلاح بين المتخاصمين، ودفع عدوان الباغين {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا..} الآيات.
* وحذَّرت السورة من السخرية والهمز واللمز، ونفَّرت من الغيبة والتجسس والظن السيء بالمؤمنين، ودعت إِلى مكارم الأخلاق، والفضائل الاجتماعية، وحين حذَّرت من الغيبة جاء النهي في تعبير رائع عجيب، أبدعه القرآن غاية الإِبداع، صورة رجل يجلس إِلى جنب أخٍ له ميت ينهش منه ويأكل لحمه {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ..} ويا له من تنفير عجيب!!
* وختمت السورة بالحديث عن الأعراب الذين ظنوا الإِيمان كلمةً تقال باللسان، وجاءوا يمنُّون على الرسول إِيمانهم، فبينت حقيقة الإِيمان، وحقيقة الإِسلام، وشروط المؤمن الكامل وهو الذي جمع الإِيمان والإِخلاص والجهاد والعمل الصالح {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ..} إِلى آخر السورة الكريمة.
التسميَــة:
سميت "سورة الحجرات" لأن الله تعالى ذكر فيها حرمة بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وهي الحجرات التي كان يسكنها أُمهات المؤمنين الطاهرات رضوان الله عليهن.
طاعة الله تعالى والرسول، والأدب في الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(1)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(2)إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(3)إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(4)وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}.
من مواعظ السورة:
هذة السورة التي لاتتجاوز ثماني عشرة آية ، سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود والإنسانية . حقائق تفتح للقلب والعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة ، وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة ، وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد التربية والتهذيب ، ومبادىء التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات !
وهي تبرز أمام الناظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير .
وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة ، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة ، لعالم رفيع كريم نظيف سليم ، متضمنة القواعد والأصول والمبادىء والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم ، والتي تكفل قيامه أولاً ،وصيانته أخيراً .. عالم يصدر عن الله ، ويتجه إلى الله ، ويليق أن ينتسب إلى الله ..عالم نقي القلب ، نظيف المشاعر ، عف اللسان ، ، وقبل ذلك عف السريرة ..عالم له أدب مع الله ، وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع غيره . أدب في هواجس ضميره . وفي حركات جوارحه ، وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه ٍوله نظمه التي تكفل صيانته . وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب ، وتنبثق منه ، وتتسق معه ، فيوافي باطن هذا العالم و ظاهره ، وتتلاقى شرائعه ومشاعره ، وتتوازن دوافعة وزواجرة ، وتتناسق أحاسيسه وخطاه وهو يتجه ويتحرك إلى الله . ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته ، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ، ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم . بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق . كذلك لا يوكل الشعور الفرد وجهده ، كما لايترك لنظم الدولة وإجراءتها . بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة ، والدولة بالأفراد ، وتتلاقى واجباتهما في تعاون واتساق .
هو عالم له أدب مع الله ومع رسول الله يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب والرسول الذي يبلغ عن الرب ( يا أيها اللذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله ، إن الله سميع عليم )
هو عالم له منهجه في التثبيت من الأقوال والأفعال والاستياق من مصدرها ، قبل الحكم عليها ، يستند هذا المنهج إلى تقوى الله ، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله ، في غير ما تقدم بين يديه ، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به ( وأعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطعيكم في كثير من الأمر لعنتم )
وهو عالم له نظمه وإجراءته العمليه في مواجهة ما يقع من خلاف وفتن ، تخلل كيانه لو تركت بلا علاج . وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين ، ومن حقيقة العدل والإصلاح ( إنما المؤمنين إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون )
وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض ، وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض : ( ياأيها اللذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ، ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم . الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )
وهو عالم نظيف المشاعر ، مكفول المحرمات ، مصون الغيبة والحضرة ، لا يؤخد فيه أحد بظنة ، ولاتتبع فيه العورات ، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس : ( ياأيها اللذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا )
هو عالم له فكرته الكامله عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب ، وله ميزانه الواحد الذي يحكم به الجميع ، إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب : ( ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ) .
والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، تحدد معالم الإيمان ، الذي باسمه دعي المؤمنين إلى إقامة ذلك العالم : ( ياأيها اللذين آمنوا ) ..ذلك النداء الذي يخجل من دعي به من الله أن لا يجيب ، والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة ، ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب .
وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الألهية للبشر . هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء : ( يمنون عليك أن أسلموا . قل : لاتمنوا علي إسلامكم . بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين )
فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة فهو الجهد الثابت الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة لإنشاء تلك الجماعات المسلمة ، التي تمثل في ذلك العالم الكريم النظيف السليم ، الذي وجدت حقيقته يوماً على هذه الأرض ، فلم يعد فكرة مثالية ، ولاحلماً طائراً ، يعيش في الخيال !
هذه الجماعة المثالية لم توجد مصادفة بل نمت كما تنموا الشجرة الباسقة العميقة الجدور واحتاجت إلى صبر طويل وجهد بصير وإلى معاناة تجارب واقعية مريرة ،مع التوجية لعبرة هذه التجارب ، وكانت الرعاية الإلهيه لهذه الجماعة - على علم - لحمل الأمانة الكبرى وتحقيق مشيئة الله في الأرض